كرستينا فرج
عدد الرسائل : 16 العمر : 40 تاريخ التسجيل : 30/03/2009
| موضوع: قدرة الله غير ما نتصوَّرها جزء ثاني الأربعاء يونيو 03, 2009 7:36 am | |
| للوهلة الأولى، لانجد ذكر الله لا في البداية و لا في المنتصف و لا في النهاية، فهو لم يتدخّل ولم يعمل شيئاً، بل الطبيعة هي التي قامت بهذا الدور الجبّار، ولهذا نكون قد ألغينا فكرة الله القديمة. وبسرعة نقول: هذا غير معقول وغير صحيح، ونحاول التمسّك بما جاء في الكتاب المقدّس. فنحن ما زلنا ننتظر من الله ان يتدخّل بيديه ورجليه، يعجن ويشكّل وينفخ، لكي نقول في النهاية: نعم هذا هو الله. لقد وضع الله روحه وقدرته في المادّة، في الحياة، في غريزة الحيوان، وفي فكر الإنسان وروحه. فليس الله بعيداً عن الكون يشكّله من الخارج، لكنّه موجود ويمارس هذا العمل من داخل المادّة والمخلوقات في إطار هذا التطوّر الطبيعيّ، وهو الذي يجعله ينطلق ويزدهر وينمو ويتقدم إلى الأمام: " ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا..." ( أع 17/ 28). وبقدر ما يختبئ الله عن عيوننا، يكون وجوده حقيقياً، فإلهنا مستتر، والإله الظاهر هو إله سطحيّ. وإليك هذا المثل لتبسيط الفكرة: ماهو الفرق بين القائد الكبير والقائد الصغير؟ الثاني هو مَن يدخل من حين إلى حين، يسأل مرؤوسيه ماذا فعلوا، ويأمر بوضع هذه الورقة في هذا المكان، ثمّ يعود بعد خمس دقائق ليرى هل تمّ تنفيذ أمره. وعلى النقيض، نرى القائد الإعلى يقول: أنا أريد أن تعمل هذا وذاك، هذه هي فكرتي. ثم يأتي في النهاية للمحاسبة، فهو يتوارى احتراماً للمسؤوليّة التي منحها لمرؤوسه، قال له تصرّف. أعطاه المبادرة كما أعطاه الروح والفكر. وهكذا يتصرّف القائد الأعلى، بعكس القادة الأصغر منه في المرتبة، فكلّ منهم يريد أن يتدخّل في كلّ لحظة ليأمر وينهي. ونحن نتوقَّع من الله أن يتدخّل في تفاصيل حياتنا مثل القائد الصغير، فيسألنا في كلّ لحظة: ماذا فعلت، هل نفذّت الوصايا؟ لقد أمرتك بأن تفعل هذا، ونتخيل أسلوبه في الخلق بالطريقة المادّة، وقال لها: إنطلقي. في هذه الحالة تقوم الخليقة بخلق ذاتها وهذا يسعدها. لكنّ الله موجود في كلّ خطوة من خطوات هذا التطوّر، وهنا تكمن عظمته وقدرته، ففي رأيي شخصياً أرى نظرية التطور أعمق بكثير من الفكرة القديمة للخلق، لأنّها تضع الله في مكانه الحقيقيّ الصميميّ لا الهامشيّ الخارجيّ، فكلّما توارى الله كان تواجده أحقّ وأعمق. لنتأمل في مسألة الأمومة والأبوة. فحين يولد الطفل، يا ترى مَن خلقه؟ الوالدان أم الله؟ ونحتار في الإجابة، والحقيقة أنّ الله أعطى الوالدين القدرة حتَّى يجتمعان ليكونا السبب المباشر والظاهريّ في خلق الجنين، وهذا يكون مصدر سعادة لهما، لكن هذا لا ينفي أنّه الخالق، فقد وهبنا سعادة الخلق لأنّه أوجدنا على صورته قادرين على الخلق. هذا هو سبب سعادة الإنسان حين يرى عمل يديه، وهو ما جعل من الأبوّة والأمومة مصدراً لفرح كبير، حين نرى طفلاً أنجبناه. وأخيراً، هذا يشير إلى أنّ داخل العمل والإنجاز والنشاط البشريّ إنَّما امتداد لخلق الله وتحقيق ملكوته. كما المخرج في الفلم بعضهم يذهب إلى دور العرض السينمائيّ لمشاهدة البطل أو البطلة، أو قد تجذب بعضهم فكرة الموضوع، ثمّ يخرج بعد انتهاء العرض، فتسأله: هل شاهدت الفيلم؟ فيجيبك؟ نعم. وما رأيك فيه؟ جميل. لكن هناك مَن يذهب إلى السينما لا لمشاهدة أبطال العمل، بل ليستمتع بأحد أعمال المخرج. فهل يظهر المخرج في الفيلم ولو لمرّة واحدة؟ كلاّ. بالرغم من أنّه موجود في كلّ تفاصيل الفيلم، في كلّ حركة، في الديكور والملابس، لكنه لايظهر إطلاقاً. ومَن يتعمّق في فنّ السينما لا يذهب لمشاهدة عمل لنجم معيّن، بل يذهب لمشاهدة فيلم لمخرج مبدع. هكذا معظم الناس يشاهدون المخلوقات فيقولون هذا فلان، وهذه منضدة، وذاك جبل...إلخ، فيكونون كمَن شاهد فيلمّا لفنان مشهور، وبقي ان يتعرف إلى مخرج الفيلم الذي لم يظهر، ولا يمكن أن يظهر على الشاشة. هذا المثال يمكن ان تستعمله في التعليم أو مع أولادك في البيت، حين يسألك أحدهم: أين الله؟ أريد أن أراه. الله مثل المخرج، هو الشخص المحوريّ في كلّ عمل فنّيّ، لكنه لا يظهر، ويجب ألا يظهر. وفي نهاية الفيلم يقابلنا ليسألنا عن رأينا في هذا العمل، ويشرح لنا لماذا صمّم الديكور بهذا الشكل، ويعلن عن ذاته، ويكشف لنا عن جميع أسرار الفيلم. هكذا يأتي ابن الإنسان في آخر العالم، ويظهر لنا بعد أن يتمّ كلّ شيء وتنتهي القصّة كلها، فنفاجأ، ونقول له: أين كنتَ؟ ويجيب: كنتُ وراء كلّ هذا. ولكن بخلاف المخرج الذي يحدّد كلّ حركة وكلّ التفاصيل، الله هو المخرج الأكبر الذي يعمل من خلال حركة الإنسان وتلقائيّته، وهذا هو الفارق الأساسيّ.
هنري بولاد اليسوعي من كتاب الله غير ما نتصوره
| |
|