عدد الرسائل : 16 العمر : 40 تاريخ التسجيل : 30/03/2009
موضوع: قدرة الله غير ما نتصوَّرها جزء اول الأربعاء يونيو 03, 2009 7:34 am
"الله على كلّ شيء قدير": عبارة كثيرا ما تتردَّد حولنا، لكن هذه الفكرة جعلتنا نتصوَّره في صورة فرعون، كشخص يطحن الإنسان ويقهره. وهذه النظرة وضعت الإنسان في حالة عبوديّة وألغت كيانه. لكنّي أعتقد أنّ هذه الصورة التي قد نكون قدَّمناها إلى الناس عن الله هي صورة مزيَّفة إلى حدَّ كبير، فقد جعلنا منه منافساً للإنسان، وكأنّه سبحانه وتعالى يقول: أنا الله، وأنت عبدي، أنا فوق، وأنت تحت، إيّاك أن ترفع رأسك وإلاّ حطمتك، فقط عليك أن تعبدني وتسجد لي مجد الله في الإنسان الحيّ أصبحنا نتصوَّر أنّه كلّما حطّ الإنسان من ذاته، سعد الله بهذا، لأنّه إن لم يفعل ذلك سيشعر الله بوجود منافس له. والحقيقة عكس ذلك تماماً، فكلَّما تعظّم الإنسان يتعظم الله، وحين يرفعُ الإنسان رأسه هذا يُسعد الله، وكلما نما الإنسان يتمجَّد الله، ولنتذكر كلمة القديس إيريناوس"مجد الله هو الإنسان الحي". ما أجمل هذا التعبير وأبلغه، فمجد الله لايكون في الإنسان العبد المنافق. "أرفع رأسك يا أخي": كلمة الزعيم جمال عبد الناصر الشهيرة، قالها الله من قبل ذلك، ارفع رأسك يابني ولاتخف، فالله غير محتاج إلى عبيد: " لا أدعوكم خدماً بعد اليوم لأنّ الخادم لايعلم مايعمل سيّده. فقد دعوتكم أحبائي..." (يو15/15). والابن لايهاب والده الذي يفتخر كلما تعظّم ابنه وازداد في ثقافته وعلمه وقوّته وحكمته. فرح الوالدين يكون حين يصير ابنهما في مرتبة أعلى منهما، هكذا شعور أبينا الذي في السموات. هناك نوع معيّن من التواضع يّحطَّم صاحبه نفسياً وروحياً، وهو تواضع مَرَضيّ، يدعو الإنسان إلى أن يزدري نفسه، فنرى بعضهم يخشى أن يثبت ذاته في مجاله، وكأنّه لصّ يختبئ ويخفض رأسه. لهذا الشخص أقول: إرفع رأسك يا اخي، فالله لا ينافس الإنسانُ، بل على العكس، كلّما تمجَّد الإنسانُ يتمجَّد الله، وتذكَّر، الله لايكون خارج الأشياء يرفرف حولها، بل هو بداخلها، وكلّما كان الشيء غنياًّ وممتلئاً، ازداد وجود الله فيه. وقياساً على الفكرة نفسها، كلما حقّقت ذاتي وملأت كياني، وانطلقت في رحلة النموّ، نما الله في داخلي. فيمكن القول إنّ الله في حالة نموّ في العالم من خلال كلّ ما ينمو ويزداد ويترعرع. ما أبعد هذه النظرة عن الفكرة السائدة، لكنّها النظرة الحقيقيّة المسيحيّة الكتابيّة. تعوَّدنا أن نجعل من الله "سدّ خانة" في جميع الحالات التي لا يستطيع الإنسان أن يقوم بها، وجميع المشكلات التي يعجز عن حلّها. على سبيل المثال، منذ زمن بعيد تساءل الإنسان عن حقيقة البرق وما سببه، ولمّا كان لا يعلم قال:هو الله. وهذا الرعد ما سببه؟ لانعلم، إذن هو الله. وخلق الإنسان كيف حدث؟ لا نعلم، إذن هو الله. وماذا بعد الموت؟ لا نعلم، إذن الله. والطبيب فشل في علاج المريض، إذن نلجأ إلى الله ليشفيه... وهكذا. والآن بعد أن فسّرنا البرق والرعد، ووضعنا نظريات عن خلق الإنسان، وتقدّم الطبّ كثيراً، وكأنّ الله بدا ينسحب شيئاً فشيئاً من حياتنا بسبب هذا التقدم العلميّ. حيث كان يشغل كلّ ما يمثّل مجهولاً في نظر الإنسان، وكلّ ما فشل في إيجاد تفسيرٍ له، وكلّ ما أخفق في إنجازه. والآن يتقدّم العلم والتكنولوجيا والمعرفة وأصبح مجال سيطرة الإنسان أوسع وأرحب. وقدرة الله في قدرة الإنسان أين الله في نظري؟ هل هو في هامش الحياة أم في قلبها؟ وهذه النزعة التي تدفع العلماء إلى اكتشاف المجهول وتوسيع دائرة المعلومات الإنسانيّة مَن مصدرها؟ إنها نزعة إلهيّة، فهو النور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان(يو1/9)، وهو الذي وصف نفسه بأنه نور العالم (يو8/12). فبدلاً من أن نرى الله في ما يعجز الإنسان عن تحقيقه، علينا أن نراه في ما تمَّ إنجازه بالفعل. فحين أقوم بعمل ناجح، يكون الله هو الذي أنجزه بي ومعي وفيّ، ولا وجود لهذا التناقض الذي نتوهَّمه. حين يحقّق العلماء إنجازاً نتساءل متعجّبين: أين دور الله؟ لقد منح سلطته وقدرته وحكمته وعلمه للمخلوق ليطوّر من خلالها العالم ويكمله. حين يفشل الطبيب في شفاء أخي، أدعو وأقول: ياربّ اشفه. وحين ينجح الطبيب في مهمّته أقول: لترى يا الله كيف استطاع الطبّ أن يشفيه؟ وكأن علينا أن نختار بين الاثنين، فإن نجح الطبّ لا مجال لله، وإن فشل نعطي الله فرصة، واضعين حداًّ فاصلاّ بين العالمين. لكنّ الله يستعمل دائماً وسائل بشريّة وعاديّة لإتمام إرادته وقصده الإلهيّ، ونحن عاجزون عن أن نراه في ذلك. دائماً نرى مجال الإنسان نقيضاً لمجال الله. إنّها الازدواجيّة في حياتنا، وهذا ما اطلقتُ عليه (الإله سدّ الخانة)، فهو يسدّ الخانات التي يفشل الإنسان في أن يفكّ لغزها، سواء بعمله أو بقدراته. الله يحلّ محلّ الإنسان في الحالات الهامشيّة التي لا يقدر عليها. من الآن عليك ألاّ تضع الله في الهامش، هامش العلم والحياة والنشاط، بل ضعه في القلب. الله في داخلنا، داخل البشريّة وداخل التقدّم والعلم والتطوّر، ومجد الله في الإنسان الحيّ. وبدلاً من أن نرى في العلم والتكنولوجيا والتقدّم أنشطة مضادّة لله، علينا أن نفكّر كيف تقدَّم العالم لنرى أنّ الله في صميم الحياة، وهو الإله الحيّ. الله في صميم العمل البشريّ إذاً ملكوت الله يتحقّق في كلّ عمل بشريّ في كلام الأب بولاد، بل في مجهود المستمع إلى المحاضرة. فأنا حين أحاول التعبير عن هذه الحقائق أستخدم كلماتي، لكنّها في الوقت نفسه هي كلمات الله، وأبذل قصارى جهدي لأعبَّر عن الأفكار الموجودة في داخلي، كي أخرجها في أوضح صورة. هذا المجهود الذي أبذله ويظهر من خلال لساني وحركات يدي وتعبيرات وجهي، ثمّ هذا المجهود الذي يبذله المستمع ليستوعب كلماتي. الله موجود في هذا التيّار المتبادل، كما أنَّه موجود في كلّ مخلوق يحاول أن يتفوَّق وينطلق وينمو، في هذه الحركة هناك الله. كثيرا ما نتصور الله كياناً ساكناً، جالساً وربّما نائماً، معتقدين أنّ الثبات صفة ملازمة للألوهيّة. كلاّ، الله ليس نائماً أو جالساً "... إنّ أبي ما يزال يعمل، وأنا أعمل أيضاً" (يو5/17). وهو منذ بدء الخليقة، وحتى الآن، في حالة مستمرّة من العمل والحركة. بل إن كلّ مايتحرّك الله فيه، وكلّ ما يتفوّق في العالم، يتفوّق الله في داخله، وكل ماينمو الله فيه " ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا" (أع 17/28). من خلال تفوق الإنسان على ذاته بالعلم والمعرفة والانتباه والنشاط يبرز الله بصورة أعلى. فالأم التي تُحيك وتحاول إصلاح ما فسد من جورب ابنها، يكون الله في إبرتها وفي عينيها. والممرضة التي ترعى مرضاها بحنان وشفقة، يتجلى الله في مشاعرها. وهنا أورد هذا النصّ لتيّار دي شاردان: " إنّ الله بما فيه من حيويّة وتجسّد ليس بعيداً عنّا خارج النطاق الملموس، لكنّه ينتظرنا في كلّ لحظة في عملنا، وفي عمل اليوم، وهو مشكّل من طرف ريشتي أو معولي أو إبرتي أو قلبي أو فكري، وأنا عندما ادفع إلى كماله الطبيعيّ من السطر أو النقطة التي كنت مأخوذاً بها، أضع يدي على الهدف الأخير الذي يستقطب إرادتي العميقة". إذاً، ملكوت الله يتحقق من خلال أيّ تفوّق بشريّ، وبصورة عامّة فإنّه يتحقّق من خلال كلّ ما ينمو في العالم، وكلّ مايتفوّق فيه " ولن يُقال: ها هوذا هنا، أو ها هوذا هناك. فها إنّ ملكوت الله بينكم" (لو 17/21) الإنسان يكمل عمليّة الخلق في اعتقادنا أنّ الله خلق العالم في الماضي البعيد، لكنّ الصحيح أنّه يخلقه الآن، فهذه العمليّة تتمّ في الحاضر، وهو سبحانه وتعالى لم ينتهِ منها حتى الآن، فلو كان قد فرغ منها لكان بإمكاننا أن نناقشه ونقول له هذا العمل غير كامل، وذاك محتاج إلى تعديل، فهناك اشياء كثيرة ينطبق عليها هذا. لكن ما ذكرت، فالله لم يفرغ من عمليّة الخلق حتى الآن فهو لم يفصل بعد بين النور والظلام، كما لم يفصل بين المياه التي تحت وتلك التي فوق الجلد، ولم يكمل خلق الإنسان. لكنّ الصحيح أنّ الخلق عملية لم تكتمل حتّى الآن، وبالتالي فإنّ اليوم السابع لم يأتِ بعد، ونحن مازلنا نعيش أحداث اليوم السادس من أيّام الخلق، فلو كنّا في اليوم السابع لاستراح الله، ومن حسن الحظّ أنّه لم يسترح بعد، وهو مازال يعمل: " أبي ما زال يعمل، وأنا أعمل أيضاً" (يو5/17). هنا نجد صورتَيْن للخالق: الأولى هي الخلق من خارج المخلوقات، وهي التي مازلنا نتشبّث بها في ضوء فهمنا لما جاء في سفر التكوين الفصلَيْن الأوّل والثاني، ومنها نرى الإله الذي يخلق بطريقة خارجيّة، بأن يتدخّل ويُشكّل وينفخ... إلخ، فنحن نريد إلهاً ظاهراً وملموساً حتّى نقول: ما دام الله فعل هذا، إذاً هو الخالق. ثم فتح لنا العلم مجالاً آخر حالياً من خلال نظريّة التطوّر التي يرفضها بعض رجال الدين على أساس أنها تقضي على وجود الله، فهي تفترض أنّ المادّة تطوّرت من تلقاء ذاتها، ثمّ أخرجت الحياة في صورة نبات وحيوان، وأخيراً ظهر الإنسان على قمّة هذه السلسة من التطوّر. فأين الله في هذه الرؤية؟